في هذا المقال، تسلّط كارين كروغر، الصحفية في فرانكفورتر ألغماينه الألمانية، الضوء على خلفيات إلغاء الكاتب الفرنسي الجزائري كمال داوود رحلته إلى ميلانو، حيث كان من المقرر أن يشارك في مهرجان أدبي. فهل كانت السلطات الإيطالية تنوي فعلاً تسليمه إلى الجزائر؟
أعرب عدد من الكُتّاب الإيطاليين مرارًا عن خشيتهم من أن تكون حرية التعبير مهدَّدة في ظل سياسات حكومة جورجيا ميلوني. وفي تطور لافت، وجّه الكاتب الفرنسي الجزائري كمال داوود، الحائز على جائزة غونكور، انتقادات حادّة للحكومة الإيطالية، معتبرًا أنها تتغاضى عن ملاحقة كاتب من أجل مصالح اقتصادية، وتتعاون مع نظام استبدادي.
وفي مقابلة مع صحيفة لا ستامبا الإيطالية، خاطب داوود رئيسة الوزراء مباشرة بقوله: “أودّ أن أقول للسيدة جورجيا ميلوني، وهي سياسية ماهرة، إنه إذا اعتقدت أنها تستطيع المفاضلة بين الغاز والأدب، فقد تجد نفسها يومًا ما بلا كليهما.”
ما خلفية هذه التصريحات؟
كان من المزمع أن يشارك داوود، الحامل للجنسيتين الجزائرية والفرنسية، في مهرجان “ميلانيزيانا” الأدبي بمدينة ميلانو في 16 يونيو، حيث كان من المخطّط أن يُعرّف القرّاء بروايته الجديدة “الحوريات”، التي من المرتقب صدورها بالألمانية هذا الخريف. الرواية التي حاز عنها جائزة غونكور لعام 2024، تتناول الحرب الأهلية الجزائرية وما خلّفته من مآسٍ، من خلال قصة فتاة تُدعى “ألبا” نجت من مجزرة ارتكبها متطرّفون، وخرجت بتشوّهات جسدية ونفسية. كما تسلّط الرواية الضوء على الطريقة التي تعامل بها النظام الجزائري مع “سنوات الإرهاب”، من خلال فرض الصمت على الضحايا والجناة معًا.
في الجزائر، حيث تُدار الرواية الرسمية للتاريخ بإشراف السلطة، مُنعت الرواية، وأُصدرت بحق مؤلفها مذكرتا توقيف دوليتان، واعتُبر العمل تهديدًا للوحدة الوطنية وانتهاكًا لخصوصية شخصية نسائية، وهي تهمٌ نفاه الكاتب ودار النشر غاليمار جملة وتفصيلًا. ومع ذلك، من المنتظر أن يُمثل داوود أمام القضاء الفرنسي في سبتمبر للنظر في إحدى تلك الشكاوى.
موقف فرنسا… وتحفّظ دبلوماسي
السلطات الفرنسية رفضت بشكل قاطع فكرة تسليمه إلى الجزائر. يُذكر أن الكاتب الفرنسي-الجزائري بوعلام صنصال واجه ملاحقات مماثلة بسبب مواقفه النقدية، ويُقال إنه يعاني اليوم من مرض السرطان في ظروف احتجاز مأساوية. أما في حالة داوود، فالمخاوف بدأت بعد تحذيرات تلقاها من جهات دبلوماسية تشير إلى احتمال توقيفه في إيطاليا وتسليمه إلى الجزائر. وعلى إثر ذلك، قرّر إلغاء زيارته حرصًا على سلامته. دار النشر الإيطالية La Nave di Teseo دعت الحكومة الإيطالية إلى ضمان دخوله دون تعرّضه لأي ملاحقة، لكن السلطات لم تُدلِ بأي تعليق. صحف فرنسية ألمحت إلى وجود تنسيق غير معلن بين روما والجزائر بشأن هذه القضية، وهو ما لا يمكن استبعاده تمامًا.
المصالح فوق المبادئ؟
تُعتبر الجزائر شريكًا استراتيجيًا لإيطاليا، وتزوّدها بحوالي 40 بالمئة من احتياجاتها الغازية. وقد تعزّز التعاون بين البلدين مؤخرًا في إطار ما يُعرف بـ “خطة ماتّي”، الهادفة إلى تعزيز النفوذ الإيطالي في القارّة الإفريقية.
ولا يُعد هذا أول اتهام لإيطاليا بتغليب الاعتبارات الاقتصادية والسياسية على المبادئ. ففي يناير الماضي، أطلقت السلطات الإيطالية سراح الليبي المطلوب دوليًا “الماصري” بعد توقيفه في تورينو، من دون التواصل مع المحكمة الجنائية الدولية. ويُنظر إلى هذا على أنه محاولة للحفاظ على علاقة متوازنة مع ليبيا في ملف الهجرة.
كما سبق أن طالبت الحكومة الإيطالية بتعليق مذكرة التوقيف الصادرة عن محكمة لاهاي بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في قضايا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لكن في قضية داوود، لا نتحدث عن محكمة دولية، بل عن مذكرة توقيف أصدرتها سلطة يُصنّفها البعض بأنها استبدادية.
رسالة مفتوحة: بداية القمع هي اللامبالاة
بعد قراره بعدم السفر، كتب كمال داوود رسالة مؤثرة نشرتها صحيفة “كوريري ديلا سيرا”، خاطب فيها الجمهور الإيطالي قائلاً: الحرية لا تُنتزع فجأة، بل تبدأ بالتآكل عندما نصمت أمام الظلم الواقع على الكُتّاب”. ويبدو أن امتناعه عن زيارة إيطاليا كان قرارًا حكيمًا، في انتظار أن تتّضح المواقف وتتراجع المخاوف.