في هذا الحوار يستعرض المحلل السياسي والخبير في الشأن الألماني والأوروبي جاد مدني أولويات السياسة الألمانية تجاه البلدان المغاربية، من التعاون الاقتصادي ومشاريع الطاقة إلى قضايا الأمن والهجرة. كما يتناول الحوار موقف برلين من ملف الصحراء، والأزمة الفرنسية-الجزائرية، واعتقال الكاتب بوعلام صنصال، وتأثير كل هذه القضايا على مستقبل الشراكة بين الطرفي.
السيد جاد مدني، ماهي ملامح السياسة الألمانية تجاه البلدان المغاربية في ظل الحكومة الجديدة؟
ستواجه الحكومة الاتحادية بقيادة فريدريش ميرتس تحديات كبيرة في مجالات السياسة الخارجية والجيوسياسية. من إعادة تنشيط الاتحاد الأوروبي عبر تعزيز التعاون بين فرنسا وألمانيا وبولندا، إلى إعادة تقييم العلاقة المتقلبة مع إدارة ترامب المحتملة، وصولًا إلى احتمال تعديل الاستراتيجية المتعلقة بتقليل المخاطر مع الصين – لن يكون هناك نقص في المهام لكل من المستشار والمُكلف بالسياسة الخارجية.
هل ستحتل منطقة المغرب العربي حيزًا مهمًا في السياسة الألمانية؟
من غير المرجح أن يكون لهذه المنطقة حضور بارز في ديوان المستشارية أو وزارة الخارجية، بل سيتم تناول قضاياها بشكل أساسي في وزارات أخرى. فمثلًا، ستُشرف وزارة الداخلية على مسألة تصنيف دول المغرب العربي كـ”دول منشأ آمنة” لتسريع إجراءات اللجوء. أما وزارة الاقتصاد، فستعمل على تعزيز الشراكات في مجال الطاقة، مثل مشروع الهيدروجين الأخضر SouthH2 مع الجزائر. بينما من المتوقع أن تخضع المشاريع التنموية، مثل تلك التي تجمع ألمانيا بالمغرب، إلى تقليصات مالية ضمن ميزانية وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية.
نتيجة لذلك، ستشهد العلاقات بين ألمانيا ودول المغرب العربي فتورًا ملحوظًا، حيث ستقتصر التفاعلات الدبلوماسية على المستويات الإدارية والفنية داخل الوزارات بدلًا من اللقاءات الوزارية المتكررة كما في السابق.
التراجع في العلاقات لا يعود فقط إلى التوجهات الألمانية، بل أيضًا إلى غياب مقترحات واضحة من جانب دول المغرب العربي لتعزيز التعاون المشترك
ما هي المجالات التي ستحظى بالأولوية؟
من المهم الإشارة إلى أن هذا التراجع في العلاقات لا يعود فقط إلى التوجهات الألمانية، بل أيضًا إلى غياب مقترحات واضحة من جانب دول المغرب العربي لتعزيز التعاون المشترك.
وفي هذا السياق، أود طرح فكرة للنقاش: تمرّ ألمانيا حاليًا بأكبر موجة إعادة تسليح في تاريخها الحديث، حيث تحقق شركات الصناعات الدفاعية، مثل “راينميتال” ازدهارًا كبيرًا في الطلبات. ورغم امتلاكها 171 موقعًا صناعيًا في أكثر من 30 دولة، إلا أنها تفتقر إلى أي تمثيل في منطقة المغرب العربي. من ناحية أخرى، تُنظم المغرب، تحت إشراف الجيش الأمريكي، مناورات عسكرية سنوية تحت اسم “الأسد الإفريقي”، غير أن مشاركة ألمانيا فيها لا تزال محدودة. يمكن استغلال هذه الفرص لتقديم مبادرات تعاون تعزز العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين.
يتمثل أحد العوائق الأساسية في ضرورة الانتقال من مجرد إعلان النوايا إلى تنفيذ المشاريع فعليًا، لضمان الاعتراف بألمانيا كشريك موثوق
لكن التعاون المشترك لن يخلو من تحديات. أليس كذلك؟
بلى. يتمثل أحد العوائق الأساسية في ضرورة الانتقال من مجرد إعلان النوايا إلى تنفيذ المشاريع فعليًا، لضمان الاعتراف بألمانيا كشريك موثوق. على سبيل المثال، نشرت مؤسسة كونراد أديناور القريبة من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في يوليو 2023 تقريرًا بعنوان “إمكانات التعاون في مجال الطاقة بين الجزائر وألمانيا“. يمكن للجزائر وتونس، من خلال مشروع أنبوب الغاز SouthH2، أن تقدما نموذجًا لكيفية تأثير مشاريع البنية التحتية في شمال إفريقيا بشكل مباشر على أوروبا. رغم أن المشروع سيمر بمرحلة انتقالية من الغاز إلى الهيدروجين الأزرق، ثم لاحقًا إلى الهيدروجين الأخضر، فإن التحدي الرئيسي يكمن في تحويله إلى واقع ملموس. بمجرد بدء تدفق المواد الخام عبر هذا الخط، قد تعيد هذه المبادرة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في المنطقة.
لقد أنشأت ألمانيا بالفعل العديد من المنصات للتعاون، من المؤسسات السياسية والغرف التجارية إلى المراكز الثقافية المنتشرة في دول المغرب العربي. لكن لا بد من تقييم هذه العلاقة من الجانبين، الأوروبي والمغاربي: لماذا لم تتطور هذه الروابط بشكل أقوى في ظل النظام العالمي متعدد الأقطاب؟ وما الذي تقدمه دول المغرب العربي لألمانيا من فرص استثمارية ملموسة؟ دون حل هذه المسائل الهيكلية، لن تتخذ العلاقات البعد الاستراتيجي الذي يسعى إليه الطرفان.
فيما يخص المغرب، هل يمكن توقع موقف ألماني أكثر جرأة بشأن قضية الصحراء، على غرار باريس ومدريد وواشنطن؟
من غير المرجح أن يتغير موقف ألمانيا في المستقبل القريب. إذ لا يوجد سبب يدفع برلين إلى تعديل موقفها من تلقاء نفسها. لا تزال الحكومة الألمانية تدعم جهود المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا، كما تعتبر مبادرة الحكم الذاتي المغربية “مساهمة مهمة” في الحل. ومع ذلك، تتجنب وزارة الخارجية الألمانية اتخاذ موقف حاسم داخل إطار الأمم المتحدة أو في سياستها الخارجية، وذلك لتفادي التوترات الدبلوماسية.
الاعتراف الأمريكي والإسباني والفرنسي بموقف المغرب جاء بعد حملات ضغط قوية على مستويات مختلفة، شملت المجالات السياسية والاقتصادية، بل وحتى المجتمعية كما في حالة فرنسا، حيث تم توضيح الفوائد الاستراتيجية لهذا الاعتراف بشكل دقيق. في ألمانيا، لم يتمكن المغرب بعد من إيصال رسالته بوضوح، رغم أن العواقب واضحة: ضعف مشاركة الشركات الألمانية في المشاريع الكبرى استعدادًا لاستضافة كأس العالم 2030، غياب الاتفاقيات المتبادلة في الأمم المتحدة، وتأثير التحفظ الألماني على مكانة المغرب داخل دوائر صنع القرار في بروكسل.
كيف تنظر برلين إلى التوتر بين باريس والجزائر؟
بمزيج من الحياد والصمت! فالأزمة الدبلوماسية بين فرنسا والجزائر لم تحظَ سوى بتغطية إعلامية محدودة في ألمانيا، كما لم تصدر أي تصريحات رسمية من قبل المسؤولين الألمان حول الموضوع. يمكن تفسير هذا التحفظ بتغير الحكومة الألمانية ودخولها مرحلة سياسية جديدة، إلى جانب الحذر العام في إدارة العلاقات الثنائية.
ومع ذلك، قد يكون لهذا النزاع تداعيات مهمة على السياسة الألمانية، لا سيما في مجال الهجرة. فقد انتقلت الأزمة من كونها مسألة سياسية إلى قضية داخلية تمسّ الأمن الأوروبي، خاصة بعد حادثة مولهاوس ورفض الجزائر استقبال المرحلين من فرنسا. لذلك، سيكون على الحكومة الألمانية تقييم مدى مصداقية الجزائر كشريك موثوق في قضايا الهجرة.
ماذا عن قضية بوعلام صنصال؟ لماذا لم يصدر أي موقف سياسي ألماني رغم التغطية الإعلامية الواسعة؟
حظي اعتقال الكاتب بوعلام صنصال باهتمام كبير في ألمانيا، خاصة لأنه تزامن مع زيارة توبياس تونكل، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الألمانية، إلى الجزائر ومخيمات تندوف. وبينما كانت القضية تتصدر عناوين الأخبار، نشر تونكل تغريدات على منصة X (تويتر سابقًا) بدت وكأنها تقلل من أهمية الحدث، مما أثار انتقادات واسعة. بعد ذلك فقط، أصدرت وزارة الخارجية الألمانية بيانًا عامًا دعت فيه السلطات الجزائرية إلى احترام حرية التعبير.
قضية صنصال التي بدأت كمحاولة لتكميم الأصوات المعارضة، قد تتحول إلى أزمة سياسية للحكومة الجزائرية.
وفقًا لمصادر دبلوماسية، هناك قلق متزايد في الأوساط السياسية الألمانية بشأن تطورات المشهد الجزائري منذ عام 2019، مع مخاوف من احتمال تصاعد التوترات. أما فيما يخص قضية صنصال، فهناك حرص ألماني على عدم اتخاذ خطوات قد تفاقم وضعه القانوني، لكن هذه المقاربة قد تتغير إذا ما تم تأكيد الحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات.
على الجانب الثقافي، هناك دعم واسع من قبل المؤسسات الأدبية الألمانية، مثل جمعية المؤلفين “مركز القلم في ألمانيا”، حيث يتم تنظيم فعاليات تضامنية، بما في ذلك الحدث الذي عُقد في 7 مارس في المسرح الألماني في برلين، والذي ناقش أيضًا الوضع السياسي العام في الجزائر. هذه القضية، التي بدأت كمحاولة لتكميم الأصوات المعارضة، قد تتحول إلى أزمة سياسية للحكومة الجزائرية.
السيد جاد مدني، شكرا لك.
حاوره، عبد الرحمان عمار.