تحالفات جيوسياسية مستجدة في منطقة الساحل
بقلم: أولف لاسينغ
تشهد موازين القوى الجيوسياسية في منطقة الساحل تحولًا جذريًا، حيث يتراجع نفوذ أوروبا وفرنسا بشكل ملحوظ من النيجر إلى مالي مرورًا بتشاد، في الوقت الذي تعزز فيه روسيا وإيران وتركيا ودول عربية حضورها لملء الفراغ الذي خلفه الغرب دون قصد. وفي خطوة تعكس هذا التغيير، أعلنت مالي والنيجر وبوركينا فاسو انسحابها من التجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا (الإيكواس).
انسحاب دول الساحل من الإيكواس: خطوة متوقعة نحو تحالف جديد
من منظور هذه الدول، فإن مغادرة الإيكواس تأتي كنتيجة طبيعية، إذ تسعى إلى بناء تكتل خاص بها بعيدًا عن الغرب، من خلال تحالف جديد مناهض له، مدعوم بشكل رئيسي من روسيا. خلال العامين الماضيين، شهدت العلاقات مع دول الساحل مثل ساحل العاج تدهورًا ملحوظًا، حيث تنظر إليها الأنظمة العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو باعتبارها حلفاء للقوى الاستعمارية السابقة، خصوصًا فرنسا، التي أيدت العقوبات التي فرضتها الإيكواس على السلطات الجديدة في النيجر. بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم في يوليو 2023، فرضت الإيكواس حصارًا على النيجر وأوقفت الإمدادات عبر موانئ مثل أبيدجان، مما دفع نيامي إلى تحميل باريس المسؤولية وطرد 1500 جندي فرنسي من أراضيها.
وبالمثل، فرض التجمع الإقليمي عقوبات على مالي عام 2022 بسبب تأجيل الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في فبراير من ذلك العام. في ظل هذه التغييرات، ترى هذه الدول أن مستقبلها يكمن في تعزيز العلاقات مع روسيا وتركيا والصين وإيران، وهي قوى تتطلع إلى استبدال النفوذ الغربي التقليدي في المنطقة.
تشاد تقترب من موسكو
تشاد، التي كانت تُعتبر حتى وقت قريب شريكًا رئيسيًا لفرنسا في المنطقة، يبدو أنها تسير على المسار نفسه. في يناير الماضي، زار رئيسها المؤقت، محمد ديبي، موسكو والتقى بالرئيس بوتين، بهدف تنويع شراكات بلاده التي كانت ترتكز تاريخيًا على فرنسا وأوروبا. في الوقت ذاته، عززت تشاد علاقاتها مع الإمارات العربية المتحدة، التي تتهمها الأمم المتحدة بتمرير أسلحة إلى حلفائها في السودان، حيث يدور نزاع مسلح بين الفصائل المتناحرة منذ عام.
أثارت زيارة ديبي لموسكو دهشة المراقبين الغربيين، حيث كانت تشاد تُعد حتى وقت قريب من أقوى حلفاء فرنسا في إفريقيا. تحتفظ فرنسا بقاعدة عسكرية كبيرة في تشاد، لكن مع استمرار التحولات الجيوسياسية، قد تجد نجامينا نفسها تنجذب إلى دائرة النفوذ الروسي، مما قد يمنح موسكو موطئ قدم أوسع في منطقة الساحل وأجزاء من وسط إفريقيا.
النيجر تقطع صلاتها بأوروبا
على غرار مالي، تبتعد حكومة النيجر العسكرية الجديدة عن أوروبا، خاصة بعد أن علّق الاتحاد الأوروبي معظم أشكال التعاون مع نيامي. كان من الصعب على فرنسا تقبل قرار النيجر بطرد قواتها، وهو ما ردت عليه باريس بإغلاق سفارتها هناك. قبل الانقلاب، كانت النيجر تُعتبر شريكًا رئيسيًا للاتحاد الأوروبي، لكن بعد استيلاء الجيش على السلطة، سعت فرنسا إلى عرقلة أي اتصالات بين الاتحاد الأوروبي والنظام الجديد، مما أتاح لروسيا فرصة ذهبية لتعزيز حضورها في البلاد.
في أكتوبر 2023، اجتمع السفير الروسي مع قادة الانقلاب في نيامي، وبحلول ديسمبر تم توقيع اتفاقية عسكرية بين الطرفين. وفي يناير 2024، زار رئيس وزراء النيجر لامين زين موسكو لمناقشة مزيد من التعاون، قبل أن يتوجه إلى تركيا وإيران، اللتين تسعيان بدورهما إلى تعزيز نفوذهما في الساحل.
أوروبا تفقد جاذبيتها
أحد العوامل الرئيسية وراء تراجع النفوذ الأوروبي في الساحل هو تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا في الدول الناطقة بالفرنسية بإفريقيا. يعود ذلك إلى الإرث الاستعماري، لكنه مرتبط أيضًا بأسلوب باريس الدبلوماسي، الذي يعتبره كثيرون متعاليًا. استغلت روسيا هذه المشاعر عبر حملات إعلامية مكثفة، نجحت في تشويه صورة فرنسا وأوروبا في المنطقة.
لكن إلقاء اللوم بالكامل على فرنسا وحدها سيكون تبسيطًا للأمر، خاصة وأن باريس شعرت بأنها تُركت وحدها في مواجهة التهديدات الأمنية في الساحل. ترى الحكومات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو أن روسيا وإيران وتركيا أكثر موثوقية كشركاء في مكافحة الجماعات المسلحة، نظرًا لتقديمهم دعمًا عسكريًا فعليًا يشمل طائرات مسيّرة ومروحيات وأسلحة، خلافًا للمساعدات الأوروبية التي غالبًا ما تأتي مشروطة بإصلاحات سياسية.
في الوقت نفسه، لا تعطي هذه الأنظمة الأولوية لترسيخ الديمقراطية بقدر ما تركز على تحقيق الأمن والاستقرار، وهو ما تستغله روسيا لتعزيز وجودها من خلال تقديم دعم عسكري موسع في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
هل ستتخلى دول الساحل عن العملة المشتركة؟
لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت مالي والنيجر وبوركينا فاسو ستنسحب أيضًا من الاتحاد النقدي لدول غرب إفريقيا (UEMOA)، حيث تستخدم هذه الدول الفرنك الأفريقي، المرتبط باليورو، مما يوفر لها استقرارًا ماليًا نسبيًا. يعتقد الخبراء أن هذه الدول تفتقر إلى الاحتياطيات النقدية اللازمة لإنشاء عملة جديدة مستقرة، مما يجعل انسحابها من الاتحاد النقدي خطوة محفوفة بالمخاطر الاقتصادية.
المغرب يقدم منفذًا إلى المحيط الأطلسي
إلى جانب روسيا، تسعى المغرب أيضًا إلى الاستفادة من التراجع الأوروبي، حيث عرضت المملكة على مالي والنيجر وبوركينا فاسو إمكانية استخدام موانئها الأطلسية كبديل للموانئ الواقعة في غرب إفريقيا. لكن تنفيذ هذه الخطة يواجه تحديات لوجستية وأمنية كبيرة، حيث إن الطرق البرية بين دول الساحل والمغرب تمر عبر مناطق غير مستقرة.
يرى المراقبون أن هذه المبادرة المغربية تحمل أيضًا أبعادًا سياسية، حيث تسعى الرباط إلى تعزيز نفوذها في الساحل ضمن منافستها الإقليمية مع الجزائر، التي تعتبر مالي والنيجر جزءًا من مجال نفوذها التقليدي.
خاتمة: تقلص النفوذ الغربي مقابل تمدد الحضور الروسي والتركي والإيراني
تشير هذه التطورات إلى أن التأثير الأوروبي في الساحل يتضاءل بسرعة، في حين تستفيد قوى جديدة مثل روسيا وتركيا وإيران من الفراغ الذي خلفه الانسحاب الفرنسي لتعزيز مواقعها في واحدة من أكثر المناطق الاستراتيجية في إفريقيا.
ترجمه من الألماني: عبد الرحمان عمار
المصدر: https://www.kas.de
الكاتب: أولف لاسينغ يشغل منصب مدير البرنامج الإقليمي لمنطقة الساحل في مالي. قبل ذلك، أمضى 13 عامًا كمحرر دولي ورئيس مكتب في وكالة الأنباء رويترز، حيث غطّى الأحداث في الشرق الأوسط، شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، مع تركيزه على الانتفاضات الشعبية، النزاعات والتدخلات العسكرية، التغيرات السياسية، التطرف والجماعات المسلحة، حركة الهجرة، الشؤون الاقتصادية، والتحديات البيئية. لاسّينغ هو أيضًا كاتب وباحث، وقد ألف كتابًا حول الأزمة الليبية. درس التاريخ، علوم الإسلام، والاقتصاد في هامبورغ، لايبزيغ، والكويت.