بقلم: أمل الطرابلسي، موظفة في مؤسسة روزا لوكسمبورغ في برلين.
في هذا المقال التحليلي الصادر عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ في برلين بتاريخ 11 مارس 2025، تكشف أمل الطرابلسي عن التحولات التي شهدتها تونس منذ ثورة 2011، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب التوترات السياسية، أدت إلى صعود قيس سعيّد، الذي اعتمد خطابًا شعبويًا لاستقطاب الناخبين.
المقال:
عندما أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده يوم 17 ديسمبر 2010 بمدينة سيدي بوزيد، احتجاجًا على الظلم والمضايقات التي تعرّض لها من قِبَل السلطات، أشعل ذلك شرارة زلزال سياسي غير مسبوق. لم تمر سوى أسابيع قليلة حتى انهار أحد أكثر الأنظمة رسوخًا في شمال إفريقيا.
لكن هذه الانتفاضة لم تكن موجهة فقط ضد الحكم الاستبدادي، بل كانت أيضًا صرخة غضب ضد التفاوت الاجتماعي العميق. فقد ارتفعت معدلات البطالة بشكل حاد، لا سيما في المناطق الداخلية المهمّشة، فيما تركزت الثروات والموارد في أيدي نخبة ضيقة، خاصة داخل الدائرة المقربة من الرئيس زين العابدين بن علي. ومع فراره إلى المنفى يوم 14 يناير 2011 بعد أكثر من عقدين في السلطة، تجددت الآمال في إقامة نظام ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية.
بداية واعدة… ولكن غير مكتملة
بالفعل، حققت الثورة بعض المكاسب في سنواتها الأولى. فقد اعتُبر الدستور الجديد الأكثر تقدمًا في العالم العربي، وأجريت الانتخابات البرلمانية عام 2014 في مناخ من الحرية والنزاهة. كما شهدت البلاد تقدمًا ملحوظًا في مجال حرية التعبير والتنظيم، حيث سُمح للصحافة بالعمل باستقلالية، وتم الاعتراف بالتعددية الحزبية، وظهرت العديد من منظمات المجتمع المدني.
وكان “الرباعي الراعي للحوار الوطني” – الذي ضم الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين – عاملًا حاسمًا في ترسيخ المسار الديمقراطي.
لكن الثورة لم تكتمل اجتماعيًا. يرى عالم الاجتماع مولدي ڨسومي، في دراسته “مجتمع الثورة وما بعد الثورة”، أن جوهر الإخفاق في عملية التحول الديمقراطي كان الاعتقاد الخاطئ بأن بناء الديمقراطية سيؤدي تلقائيًا إلى انتعاش الاقتصاد. لكن هذا لم يحدث، بل على العكس، تفاقمت الأزمات الاقتصادية.
صعود قيس سعيّد
مع وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي في صيف 2019 وإجراء انتخابات مبكرة، كانت مؤسسات الدولة قد بدأت تهتزّ بفعل الصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية. وسط هذا المشهد المضطرب، برز قيس سعيّد كمرشح غير تقليدي، لم يكن ينتمي إلى أي حزب سياسي. اشتهر سابقًا كمحاضر في القانون الدستوري، وكانت خطبه، التي جمعت بين النقد اللاذع للنظام السياسي والتوجه المحافظ، تلقى صدى واسعًا بين الناخبين المحبطين.
في حملته الانتخابية، لم يكتفِ سعيّد بالدعوة إلى إصلاح المؤسسات، بل وعد بإلغائها واستبدالها بهياكل جديدة بالكامل. هذا الخطاب الشعبوي لاقى قبولًا كبيرًا لدى شرائح مختلفة من المجتمع، خاصة بين أولئك الذين شعروا بأن “الثورة قد سُرقت”.
وقد تمكّن سعيّد من استقطاب فئات متنوعة عبر تقديم وعود متناقضة، إذ خاطب من جهة أنصار العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروات، ومن جهة أخرى، جذب المحافظين بتصريحات عن الهوية الوطنية والدين.
لكنّ قاعدته الانتخابية الأساسية كانت تتألف من ثلاث مجموعات رئيسية:
- الشباب والحركات الاحتجاجية، الذين شعروا بأنهم الخاسر الأكبر بعد الثورة. وحصل سعيّد مبكرًا على دعم “حركة شباب تونس”، التي تبنّت، مثله، فكرة تغيير النظام السياسي جذريًا. لم يكن مستغربًا إذن أن يصوّت له 90 بالمائة من الناخبين بين 18 و25 عامًا في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.
- الحركات الاجتماعية، التي نشأت بعد 2011 للمطالبة بتوزيع أكثر إنصافًا للموارد بين المناطق، والتي رأت في سعيّد أملًا لتحقيق مطالبها.
- تحالف الكرامة، الذي ورث إرث “روابط حماية الثورة”، وهي جماعة متشددة تم حلها قضائيًا بسبب تورطها في العنف السياسي. كان هذا التيار يسعى إلى إقامة دولة تستند إلى الشريعة الإسلامية، وهو ما توافق مع بعض أطروحات سعيّد.
في هذا المناخ السياسي المشحون، كان من السهل على سعيّد الفوز في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية في أكتوبر 2019. لكن المشهد البرلماني كان مختلفًا، إذ أفرزت الانتخابات التشريعية برلمانًا شديد التشرذم، لم يتمكن من العمل بفعالية بسبب الخلافات الحادة بين الكتل السياسية، مما فتح المجال أمام سعيّد لتعزيز سلطته.
الانقلاب: لحظة حاسمة في تاريخ تونس
في 25 يوليو 2021، استغل سعيّد المادة 80 من الدستور، التي تسمح بإعلان حالة الطوارئ، للإطاحة بالحكومة وحل البرلمان، في خطوة وصفها معارضوه بـ”الانقلاب الدستوري”. في البداية، قوبلت هذه الخطوة بترحيب شعبي، بينما وجدت الأحزاب السياسية والنقابات نفسها عاجزة عن تقديم ردّ موحّد.
سريعًا، بدأ سعيّد في إحكام قبضته على مؤسسات الدولة. خلال أشهر قليلة، علّق العمل بالدستور فعليًا، وقام بحل البرلمان، وشنّ حملة اعتقالات طالت سياسيين من مختلف التيارات، كما وضع القضاء والإعلام تحت سيطرته المباشرة. وفي يوليو 2022، تم إقرار دستور جديد عبر استفتاء شعبي، عزّز سلطات الرئيس بشكل غير مسبوق.
تونس في قبضة الخوف
وسط هذه التحولات، بدا واضحًا أن المقاومة السياسية لتوجهات سعيّد كانت محدودة. فقد أثبت الجمع بين الديمقراطية البرلمانية والليبرالية الاقتصادية هشاشته في بلد يعاني من تفشي الفقر والتفاوت الاجتماعي.
أضف إلى ذلك، أن النظام الجديد خلق مناخًا من الترهيب، أدى إلى إسكات العديد من الأصوات الناقدة، حتى داخل دائرته المقربة، كما ظهر من خلال التغييرات المتكررة في المناصب الحكومية.
وفي الوقت ذاته، سارعت الدول الأوروبية إلى التعامل مع النظام الجديد، ليس دعمًا للديمقراطية، بل رغبة في الاستفادة من سعيّد كحليف لوقف تدفق المهاجرين نحو أوروبا. وهكذا، تم إبرام اتفاق غير معلن يقوم على “التمويل مقابل ضبط الهجرة”.
بين التصحيح والانهيار: إلى أين تتجه تونس؟
بالنسبة لأنصار سعيّد، كان استيلاؤه على السلطة “تصحيحًا لمسار الثورة” وإعادة الأمور إلى نصابها، بينما يرى معارضوه أن ما حدث كان إعلانًا رسميًا عن نهاية الحلم الديمقراطي.
لكن التحدي الأكبر لسعيّد لا يزال في انتظاره: هل سيتمكن من حل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد؟
الشكوك كبيرة، والإجابات غير واضحة، ولكن ما هو مؤكد أن تونس لم تعد تلك المنارة الديمقراطية التي أضاءت العالم العربي بعد 2011.
ترجمه من الألماني: هيئة التحرير