بقلم: دومينيك برانتل، صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ”
في هذا المقال يتحدث الصحفي الألماني دومينيك برانتل عن رحلة ملحمية بالقطار من ميونيخ إلى مراكش ويكشف عن مغامرة عبر أوروبا إلى قلب المغرب، بين تأخيرات، أمطار، وأسواق تنبض بالحياة. من باريس وبرشلونة إلى طنجة ومراكش، تتقاطع الثقافات والقطارات في تجربة سفر لا تُنسى.
الريح تعصف بشراسة على زجاج النوافذ، والسفينة تتأرجح تأرجحًا يُشعر بالألم في الأحشاء، إذ يهبُّ نسيم البحر هذه الأيام على مضيق جبل طارق بجنون ربيعي. ومع ذلك، يلوح في الأفق بصيص من الأمل؛ فالقارة الإفريقية تقترب تدريجيًا، رغم أمواج البحر التي قلبت جداول الرحلة الدقيقة رأسًا على عقب… مجددًا.
تنسيق مفرط بين القطارات، العبارات، والفنادق، مع ست محطات تبديل على الطريق!
لماذا، بحق كل شيء، أقدمت على هذه المغامرة؟
لأن السفر بالقطار – وليس بدافع الوعي البيئي فقط – لا يزال من آخر أشكال الترحال التي تحمل صفة المغامرة الحقيقية. ففي زمن الإنترنت وتذاكر الـInterrail وعصر العولمة، لا تزال سكك الحديد تعيش خارج الإيقاع العالمي. وتزداد نكهة المغامرة حين تمتد الرحلة إلى ما يقرب من 3800 كيلومتر. وغالبًا ما تأتيك المفاجآت، كما حدث في محطة كارلسروه: “بسبب عطل فني، أغلقت الشرطة السكة كليًّا. ننتظر تعليمات لاحقة.” وجاءت التعليمات بتغيير المسار إلى باريس مرورًا بمانهايم وساربروكن. قد يرى البعض أن القطار يعيد للسفر معناه القديم، حين كان الطريق أهم من الوجهة.
باريس، اليوم الأول، الساعة 14:42، طقس مشمس
الانتقال بين محطتي Gare de l’Est وGare de Lyon؟ ممكن في 20 دقيقة إذا توافرت أربعة شروط: أولًا، حظ نادر. ثانيًا، تذكرة مترو محجوزة مسبقًا عبر التطبيق. ثالثًا، حقيبة خفيفة الوزن. ورابعًا، ثلاث جولات جري تنافس فيها أبطال أوروبا. وبدل نزهة عبر شوارع باريس الدافئة وكوب قهوة على الرصيف، كانت الوجبة Quiche Lorraine مع علبة كولا داخل قطار الجنوب الفرنسي – بطعم أفضل من طعام قطارات ICE الألمانية.
يُسرع الـTGV مبتعدًا عن باريس، مدينة العشاق، التي باتت ذكرى في مرآة الذاكرة. عند مدينة نيم، تزهر الأشجار، وفي مونبلييه تظهر أولى أشجار النخيل. المشهد الخارجي يتحرك ببطء، فالقطار لا يستطيع تجاوز قدرة السكة. السماء تزداد كآبة، والفلامينغو في المستنقعات تبدو باهتة اللون. حتى فرنسا تملك بقعًا جمالية ناقصة.
برشلونة، الليلة الأولى، الساعة 8:30 صباحًا، مطر
تصل إسبانيا، الدولة التي لا تجيد دائمًا إغواءك كما تفعل إيطاليا، لكنها في برشلونة تنجح – آه، برشلونة! لو كنا نعلم سابقًا أن الوصول إليها بهذه السهولة ممكن! وحدها التاباس في حانة “لا باوشا” قرب محطة Sants تستحق كل هذا العناء.
السفر بالقطار يحمل سحر الوقوف في قلب المدينة، لا على أطرافها كما تفعل الطائرات. فما أهمية الانتظار أمام أجهزة الفحص الأمني بالمحطة، أو التأخير الجديد بسبب الأمطار، طالما أن هناك أملًا في اللحاق بقطار إلى ألخزيرات؟
لكن محطة “أنتيكيرا سانتا آنا” كانت خالية وكئيبة، كما لو أنها مأخوذة من مشهد افتتاحي لفيلم “حدث ذات مرة في الغرب”. لا أحد يرغب في الانتظار ثلاث ساعات هناك. نعم، حتى إسبانيا تحتوي على زوايا مهملة.
مالقة، ثم الحافلة إلى ألخثيراس، غروب، طقس ماطر
نواصل بشكل عفوي عبر قطار AVE – النسخة الإسبانية من TGV – إلى مالقة. لم يعد هذا تنقلًا، بل أشبه بهروب صوب الجنوب. المشهد الطبيعي يتبدل بين مياه وزهور الكرز، يذكّر بإيرلندا لوهلة. السماء ملبدة، والمدينة في نصف ضوء. على الطريق إلى ألخثيراس تصلنا رسالة من الفندق: “لا توجد عبارات اليوم من طريفة إلى طنجة. نأمل في غدٍ أفضل.”
ألخثيراس، الليلة الثانية، العبارة 9 صباحًا، المطر يتلاشى
الخزيرات ليست سوى بوابة إلى إفريقيا. تقول موظفة الفندق: “الكل هنا يعبر إلى المغرب.” فالمدينة، الواقعة بين الحضارات، كانت مسرحًا للفتوحات والدمار: المور، الفايكنغ، الصليبيون، والإنجليز. كلهم مروا من هنا. في الميناء مطاعم مغربية، وعلى التل حانات إسبانية. في “بار تشيكي”، الجعة بـ2.50 يورو، مثل ثمن شوربة “الحريرة” مع الخبز في مطعم “غويا”. الاثنان كانا رائعين.
خطة العبور عبر طريفة إلى طنجة سقطت أمام أمواج البحر. لم يبق سوى طريق طنجة ميد، الميناء الكبير والبشع شرق طنجة. لا عبور احتفالي إلى دفء القارة السوداء، بل إعلان داخل العبّارة: “بسبب العواصف، يُمنع الصعود إلى السطح.”
طنجة، الليلة الثالثة، الساعة 10 صباحًا، طقس متقلب
المغرب يستقبلك ببساطة مدهشة. الإجراءات الحدودية خالية من التعقيد، السائقون مهذبون، حتى مقابس الكهرباء مألوفة. ومع أن العولمة تُضعف الفوارق الثقافية، ما زالت بعض الملامح الأصلية قائمة.
طنجة مدينة تتلون: أبيض، أزرق، أخضر. ليس عجيبًا أن أحبها ماتيس. في السوق تُعرض رؤوس ماشية ودجاج كامل، غير مبرد. قربها، تلال من الزيتون والفراولة – كيسان مقابل 1.60 يورو؟ صفقة رابحة. الروائح: قرفة، ليمون، بقدونس، تمر. المطر غسل كل شيء إلا العطر.
الآذان يتردد مرارًا، كأنه يصدر من داخل الغرفة. وتلك المفارقة الغريبة: في بلاد المشرق، تشرق الشمس متأخرة، فيبدو التوقيت متراجعًا ساعة كاملة. هل المغرب متأخر أم متقدم عنا؟ تذكير بسيط: القطار إلى باريس؟ تأخير 90 دقيقة. قطار إسبانيا؟ تأخير 90 دقيقة. العبّارة؟ تأخير 90 دقيقة. قطارات المغرب؟ تنطلق بدقة متناهية.
المثل: “الأوروبي يملك الساعة، والأفريقي يملك الوقت” باطل. فالمغرب يملك القطار الأسرع: “البُراق”. في خمس ساعات، مقابل أقل من 30 يورو، تتنقل بين طنجة، الرباط، الدار البيضاء، إلى مراكش. الأرض تتحول إلى اللون الأحمر، قاحلة. المغرب يتقلص تحت سرعة البراق.
مراكش، ألف ليلة، شمس أكثر من الغيوم
هذه المدينة تبتلع الزائر وتبتلعه في أسواقها وأزقتها. لا عجب أن أبهرت الرسامين والكتاب: ماجوريل، كانيتي، إيف سان لوران، هيليج تيمرابيرغ… كلهم تركوا أثرهم هنا. في ساحة جامع الفنا – ذلك التراث العالمي – ما زال السحر قائمًا: السحرة، القردة، الجلابيب، الحمير، القهوة، التجار المراوغون، الكباب، العصائر، العربات. السؤال البسيط: هل يفسد السياح المكان أم يحيونه؟
“الحديقة السرية” أعيد إحياؤها بفضل الزوار. من برجها، كما من شرفات المدينة، ترى جبال الأطلس. خلفها تبدأ الصحراء… المغامرة الحقيقية، المنتظرة. هذه الرحلة تحتاج إلى إعادة.