بقلم: فرانك تزِل
في زيارته الأخيرة إلى العاصمة المغربية الرباط، أطلق وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إشارة دبلوماسية ذات دلالة، كان ينبغي لصنّاع القرار في برلين أن يولوا لها اهتماماً خاصاً. ففي البيان المشترك الصادر في 2 يونيو بين المملكة المتحدة والمغرب، جاء تصريح بالغ الأهمية: ترى لندن أن مبادرة الحكم الذاتي المغربية لعام 2007 تمثّل “الخيار الأكثر مصداقية وواقعية وبراغماتية” لتسوية نزاع الصحراء الغربية.

فرانك تزِل
يأتي هذا الموقف منسجماً مع ما بات يُلاحظ من تغير في لهجة عدد من القوى الدولية الكبرى – مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، وإسبانيا، وهولندا – حيث بدأت تلك الدول تعتمد خطابات دبلوماسية تعكس مقاربات واقعية. وهي بذلك تعترف، بشكل غير مباشر، بأن تسوية النزاع عبر حل سياسي عملي أكثر جدوى لاستقرار المنطقة من التمسك بمواقف دبلوماسية رمادية.
ولا تقف المقاربة البريطانية عند التصريحات فقط، بل تتجلى كذلك في إجراءات اقتصادية ملموسة. فقد أعلنت لندن عن تخصيص خط تمويل بقيمة تصل إلى خمسة مليارات جنيه إسترليني، من خلال مؤسسة تمويل الصادرات البريطانية، لدعم مشاريع تنموية في الأقاليم الجنوبية للمغرب. وتُعد هذه الخطوة تعبيراً عن توجه اقتصادي خارجي يسعى إلى ترسيخ الاستقرار عبر الاستثمار، مع تعزيز موقع المغرب كبوابة استراتيجية للتعاون الاقتصادي مع إفريقيا.
في المقابل، لا تزال ألمانيا تتبنى موقفاً متحفظاً بشكل واضح. فعلى الرغم من أن الحكومة الألمانية تدعم رسمياً مسار المفاوضات الذي ترعاه الأمم المتحدة وتؤيد جهود المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، إلا أنها لم تصدر حتى الآن أي تقييم مباشر أو موقف صريح تجاه مبادرة الحكم الذاتي المغربية. وقد كان هذا التريث الاستراتيجي مقبولاً لفترة طويلة، إلا أنه بات يواجه انتقادات متزايدة.
اختلافات جوهرية في السياسات الاقتصادية الخارجية
تُظهر مقارنة مواقف كل من برلين ولندن حيال نزاع الصحراء الغربية تبايناً ليس فقط على مستوى الخطاب الدبلوماسي، بل كذلك في طريقة إدماج السياسات الخارجية ضمن الرؤية الاقتصادية لكل دولة. فبينما تمسكت ألمانيا عام 2022 بالحياد الرسمي والالتزام الصارم بالعملية الأممية، عمدت بريطانيا عام 2025 إلى مواءمة موقفها السياسي مع مصالح اقتصادية واضحة واستعداد فعلي للاستثمار في المنطقة.
إطار سياسي وصياغات دلالية متباينة
وصفت بريطانيا المبادرة المغربية بصيغة مباشرة بأنها “جديرة بالثقة، واقعية، وعملية”. وهذه العبارات لم تُستخدم اعتباطاً، بل تعكس ثقة سياسية في الطرح المغربي، من دون أن تصل إلى مستوى الاعتراف القانوني بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. وقد حافظت لندن على الإطار الأممي كمرجعية، لكنها قدّمت قراءة مستقلة وواقعية لما يمكن أن يشكل حلاً قابلاً للتطبيق.
ولا تُعد هذه المقاربة مواجهة للمسار الأممي، بل تأكيد على دعمه، كما يظهر في استمرار لندن بتأييد المبعوث الخاص دي ميستورا والإطار التعددي للمفاوضات. غير أن ما يميز النهج البريطاني هو تقبّله للواقع: فبدلاً من انتظار توافق مبهم، يُبنى الطرح على أسس عملية قابلة للتنفيذ.
بالمقابل، استخدمت ألمانيا في عام 2022 تعبيراً أكثر تحفظاً، مكتفية بالإشارة إلى المبادرة المغربية بأنها “مساهمة مهمة”. هذا التوصيف يعكس من جهة رغبة في ترميم العلاقات مع الرباط بعد أزمة 2021، لكنه من جهة أخرى يكشف حدود الموقف الألماني، إذ لم يتم اتخاذ موقف نوعي من المبادرة مقارنة ببدائل أخرى، كخيار الاستقلال الكامل.
التكامل بين الاقتصاد والسياسة في المقاربة البريطانية
ما يثير الانتباه في الموقف البريطاني هو الارتباط الوثيق بين الرؤية السياسية والمبادرات الاقتصادية. فإعلان لندن عن تخصيص تمويل بمليارات الجنيهات لمشاريع البنية التحتية والتنمية – بما يشمل الأقاليم الجنوبية – يرسل رسالة واضحة: الرؤية الاقتصادية تترجم التوجهات السياسية. ويعكس هذا نموذجاً لشراكة تعتمد على المصالح الاقتصادية الخارجية، حيث يتم ضمان الأمن الاستثماري عبر وضوح المواقف السياسية.
وعلى عكس ذلك، لم تُظهر ألمانيا حتى الآن التزاماً اقتصادياً موازياً في هذا السياق، ولم توفّق بين دبلوماسيتها في قضية الصحراء ومبادرات اقتصادية ملموسة. رغم وجود تعاون اقتصادي مهم مع المغرب، لا سيما في ملفات الهيدروجين والطاقة والهجرة، إلا أن هذه الشراكات لم تُصمم خصيصاً لتشمل الأقاليم الجنوبية، ولم ترتبط بخطاب سياسي يضفي عليها طابعاً استراتيجياً. وهذا الغياب يجعل السياسة الألمانية تبدو بيروقراطية ومترددة، وهو انطباع قد لا يعكس الواقع الفعلي للتعاون الاقتصادي، لكنه يترك أثراً في التصور السياسي العام.
التموضع الجيوسياسي: رؤية بريطانية وتردد ألماني
تسعى المملكة المتحدة إلى تأطير المغرب كشريك استراتيجي في مجالات متعددة: بوابة للأسواق الإفريقية، داعم للاستقرار في منطقة الساحل، ومركز محتمل للطاقات واللوجستيات. وهذا التوجه يُمكّن لندن من ربط مصالحها السياسية بمشاريع تنموية واقعية، مما يتيح لها موطئ قدم بارز في السياسات الإفريقية الأوروبية، رغم انسحابها من الاتحاد الأوروبي.
ألمانيا، في المقابل، لا تزال أسيرة دور الوسيط، ساعية إلى الحفاظ على توازن حساس بين الرباط والجزائر، دون التفاعل بفاعلية مع التحولات الإقليمية. ورغم أن هذا الحياد قد يكون مبرراً دبلوماسياً، إلا أنه لا يخلو من تبعات: فبينما تنخرط دول أخرى في استثمارات استراتيجية وتحركات سياسية مدروسة، تبدو ألمانيا وكأنها تفقد زمام المبادرة في ملفات الشراكات الحيوية.
نقطة تحول محتملة للسياسة الخارجية الألمانية
في عالم يشهد إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية، وتوسعاً في مجالات النفوذ الاقتصادي، وتطوّراً في أطر التعاون التنموي، تبرز تساؤلات جوهرية: إلى متى يمكن لألمانيا أن تبقى في موقع المراقب المتردد؟ وهل يمكن لها مواصلة الاكتفاء بدور الحياد في منطقة تُعد محورية لمستقبل أوروبا الأمني والاقتصادي؟
تُثبت التجربة المغربية أن الدبلوماسية القائمة على مصالح اقتصادية مدروسة ليست نقيضاً للحياد، بل قد تكون أداة لتعزيز الاستقرار وترسيخ المصالح. والقرار البريطاني بربط الموقف السياسي بأدوات تمويلية واضحة هو مثال على سياسة عملية، ذات بعد استراتيجي، مدفوعة بالواقعية ومدعومة بإمكانيات اقتصادية.
أما ألمانيا، التي تسعى إلى ترسيخ مكانتها كلاعب في النظام الدولي، فإن هذه القضية تمثّل اختباراً لقدرتها على اعتماد سياسة خارجية فعالة وواقعية. فالدعم للمسارات متعددة الأطراف سيظل ضرورياً، لكنه لا ينبغي أن يتحول إلى مبرر للجمود، خصوصاً في ظل توفر أدوات اقتصادية قادرة على إحداث فارق.
لقد أظهرت المملكة المتحدة في شمال إفريقيا أن الدمج بين الاقتصاد والدبلوماسية يمكن أن يثمر نتائج ملموسة. ومن هنا، لا يعود الأمر مجرد موقف تجاه الصحراء الغربية، بل تساؤلاً أوسع: إلى أي مدى يمكن للسياسة الخارجية الألمانية أن تملك قدرة تأثير استراتيجية في واحدة من أكثر مناطق العالم ديناميكية وأهمية؟
فرانك تزِل
محلل سياسي، الرئيس التنفيذي لجمعية كارل دويزبيرغ بألمانيا.