في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في مايو 2024، فشل المرشحون في حسم الفوز من الجولة الأولى، لكن ناوروتسكي نجح لاحقًا في حصد الأغلبية متفوقًا بفارق ضئيل على منافسه رافال ترزاسكوفسكي، عمدة وارسو. ورغم التهنئة التي قدمها الأخير عبر منصة “إكس”، إلا أن كلماته عكست خيبة أمل كبيرة: «هذا النصر يحمل مسؤولية كبيرة، خاصة في مثل هذه الأوقات الصعبة وبنتيجة تكاد تكون متقاربة». وأضاف بأسى: «أعتذر لعدم تمكني من إقناع غالبية المواطنين برؤيتي لبولندا”.
صلاحيات كبيرة للرئيس
بفضل حق النقض الذي يتمتع به الرئيس البولندي، يمكن لناوروتسكي أن يعرقل مشاريع القوانين الأساسية لحكومة رئيس الوزراء دونالد توسك، مما يجعل الحكم فعليًا شبه مستحيل. هذا السيناريو ينذر بعودة الفوضى السياسية، واحتمال اللجوء إلى انتخابات برلمانية مبكرة قد تفتح الطريق مجددًا أمام حزب “القانون والعدالة” اليميني للعودة إلى السلطة.
في بولندا، لا يقتصر دور الرئيس على التمثيل البروتوكولي، بل يشمل أيضًا صلاحيات جوهرية، أبرزها قيادة القوات المسلحة والمشاركة في توجيه السياسة الخارجية، إلى جانب القدرة على تقديم مشاريع قوانين أو تعطيلها. ومع صعود الناوروتسكي، المدعوم من تيار اليمين المحافظ، بات من الواضح أن التوتر مع الحكومة الليبرالية سيأخذ بعدًا مؤسساتيًا قد يعرقل تنفيذ أجندة توسك الإصلاحية.
مخاوف أوروبية من انحراف جديد نحو الشعبوية
الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير سارع إلى تهنئة الناوروتسكي، مؤكدًا على أهمية الشراكة بين برلين ووارسو، رغم توتر العلاقات في السنوات الماضية. من جهتها، أعربت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، عن أملها في استمرار التعاون، بينما أبدى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تطلعه إلى علاقة قوية مع بولندا في ظل استمرار الحرب الروسية على بلاده.
لكن خلف هذه الرسائل الدبلوماسية، تتصاعد في برلين وبروكسل المخاوف من أن يكون الناوروتسكي امتدادًا لنهج سلفه دودا في الصدام مع المؤسسات الأوروبية. السياسي الألماني باول تسيماك عبّر صراحة عن قلقه من أن يعمل الناوروتسكي على “إفشال حكومة توسك” ومنع تنفيذ وعوده الانتخابية. كما نبّهت الباحثة في الشؤون البولندية، أجنيزكا لادا-كونيفال، إلى احتمال أن يسلك الناوروتسكي نهج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تعامله مع الداخل والخارج.
ملف التعويضات من ألمانيا يعيد التوتر التاريخي
أحد أبرز الملفات المثيرة للخلاف بين بولندا وألمانيا هو ملف تعويضات الحرب العالمية الثانية. ففي حين تتمسك وارسو، وخاصة التيار اليميني، بمطالبات تصل إلى 1.3 تريليون يورو، ترفض برلين هذه المطالب استنادًا إلى اتفاقيات سابقة، أبرزها معاهدة 1990. لكن هذه الخلافات لا تتوقف عند الجانب المالي، بل ترتبط بسردية تاريخية وهوياتية لا تزال تؤجج المشاعر الوطنية البولندية.
وفي خطوة تهدف إلى تهدئة الأجواء، عبّر رئيس الوزراء دونالد توسك في يوليو 2024 عن رضاه النسبي عن الموقف الألماني، رغم رفضه للتعويضات المالية، مرحبًا بمشاريع رمزية مثل إقامة نصب تذكاري ودعم الناجين. إلا أن هذا الموقف جلب عليه انتقادات شديدة من الرئيس آنذاك أندريه دودا والمعارضة، الذين اعتبروا التنازل عن هذه المطالب تفريطًا في “حق تاريخي لا يُسقط بالتقادم”.
أوروبا وبولندا: تحالف هش تحت ضغط الانقسامات
تتعدّد نقاط التوتر بين بولندا والاتحاد الأوروبي، وتشمل طيفًا واسعًا من القضايا السياسية والقانونية. على رأس هذه الخلافات يأتي ملف استقلال القضاء، حيث يتهم الاتحاد الأوروبي وارسو بتقويض استقلالية السلطة القضائية، بينما ترد بولندا بأن الإصلاحات ضرورية لتطهير ما تعتبره نخبة قضائية مغلقة وغير خاضعة للمساءلة.
وفي خطوة أثارت الكثير من الجدل، قضت المحكمة الدستورية البولندية بعدم أولوية بعض بنود القانون الأوروبي على القانون الوطني، ما اعتبرته بروكسل تهديدًا مباشرًا لركائز الاتحاد القانونية.
كما تواجه بولندا انتقادات بشأن حرية الإعلام، وسط اتهامات بالتضييق على الصحافة، إلى جانب مواقفها المثيرة للجدل تجاه مجتمع الميم، التي أدّت إلى تعليق بعض التمويلات الأوروبية.
في ملف الهجرة، ترفض وارسو المشاركة في آلية توزيع اللاجئين الأوروبية، وتدخل في توترات حدودية مع بيلاروسيا، ما يزيد التحديات الأمنية في الجناح الشرقي للاتحاد.
أما في مجال الطاقة والمناخ، فتُصر بولندا على استمرار اعتمادها على الفحم الحجري، رافضة السياسات البيئية الأوروبية التي تسعى إلى تقليل الانبعاثات، ما أدّى إلى صدامات قانونية، منها النزاع بشأن منجم “توروف”.
وفي ظل استمرار هذه الخلافات، قامت بروكسل بتجميد مليارات من أموال التعافي المخصصة لبولندا، بسبب انتهاكات تُصنَّف على أنها تمسّ مبدأ سيادة القانون.
إلى أين تتجه بولندا؟
إن فوز الناوروتسكي لا يعكس فقط تغييرًا في رأس الدولة، بل يمثل تحوّلًا استراتيجيًا قد يحدد مستقبل بولندا داخل الاتحاد الأوروبي. وفي ظل الانقسام الحاد بين المؤسسات، والتوترات التاريخية والسياسية مع ألمانيا، يبدو أن بولندا تدخل مرحلة من عدم الاستقرار المؤسسي قد تفتح الباب أمام انتخابات مبكرة، وربما عودة المحافظين إلى السلطة.
هل يمكن للاتحاد الأوروبي التأثير في الداخل البولندي دون أن يُتهم بـ”الوصاية السياسية”؟ وهل ستتمكن حكومة توسك من الصمود أمام “فيتو” رئاسي متكرر؟ الأيام المقبلة ستحمل الإجابات، لكن المؤكد أن بولندا ستظل محورًا أساسيًا في معركة أوروبا بين القيم الليبرالية وتيارات السيادة القومية.